تجلس القرفصاء في غرفة يكتنفها الظلام وسط سكون عارم يخطف الانفاس .. تسرع الخطى ذهابا و ايابا في ارجاء الغرفة المظلمة لينتهي بها الامر امام المرآة المعلقة وسط الحائط .. تتجرد من أسمالها السوداء .. تنتزع حمالة صدرها التي تضغط على نهديها المكتنزتين بقوة رعناء لتبقيهما معلقتين .. لم تكن تتجرد من ملابسها فحسب .. و انما تتجرد من قبضة الانا .. من لعنة الوعي .. ترمي الملابس عرض الحائط و تسرع كي تقف امام المراة برهة من الزمن متفحصة جسدها بامعان .. كانها تملأ به ناظريها للمرة الاولى .. ثم تحسست جلدها لتنبش في دهاليز الذاكرة و تتذكر ان هذا الجسد مقيد .. ان هاته العينين .. و هاتين الشفتين .. و انحناءة الفخذين و تكور النهدين .. " ملكهم " .. كلمة افقدتها صوابها لتتملكها نوبة هستيرية سيطرت عليها من الراس الى اخمص القدمين .. ترقص ، تقفز ، تنتنحب ، تهرول عسى ان تتحرر من اغلال القفص .. الا ان القيد مرسوم على كل شبر من جلدها بحبر موروث يستحيل محوه ... تطأ قدماها ارض الواقع مجددا .. واقع بشع ينكل باحلامها و يغتال امالها ليرديها حطاما .. اندثرت الكلمات من شفتيها الرقيقتين مخاطبة الملامح المرهقة المنعكسة على سطح زجاج المراة : " ما انا سوى نتاج لافكارهم .. انا ما لقنوه اياي منذ نعومة اظافري ، انا السراب الذي ألهوه .. انا الكذبة التي جعلوني اصدقها .. كل ما عرفته انه يجب علي ان اكون ما يقولون و ما يحددون .. انني مجرد امتداد لما يقرورن .. انه من الضروري الالتزام بالقوانين التي وضعوها .. بنمط عيش الاجداد و الاسلاف الذي يتجسد في شكل محاضرات مملة على لسان امي كل صباح .. انني انثى و لست ذكرا .. اي انني لست انسانا كاملا يستحق العيش بحرية .. انني مجبرة على تتبع خطاهم .. و الايمان بمعتقداتهم .. و الركض وراء اوهامهم .. و تبني اكاذيبهم .. و حفظ تعاويذ الوهم الذي قدسته الاف العقول المنطفئة عن ظهر قلب .. ان التعبير عن ما يخالجني من مشاعر بحرية خطيئة تستحق التوبة .. ان الضحك بصوت عال جريمة تستحق العقاب .. فالقهقهة و التعبير عن سعادتي يعني بأنني عاهرة يستقبل سريرها عشرات الغرباء كل ليلة .. ان الحب غول يغتال العذارى .. و ان الجنس حرام جزاءه الخلود في جهنم .. ان جسدي عورة .. جسدي دنس و خطيئة .. و من الجدير بي ان اواريه وراء غطاء اسود خزيا من عار الفضيحة .. و احتماء من عشرات الألسنة و الاعين المختبئة وراء الجدران المهترئة و الابواب الموصدة .. التي لا تنفك عن مراقبة حركاتي و سكاناتي و تترصدني كل يوم من الشرف المنتشرة في ربوع الحي مستعدة كي تصوب نحوي اسهمها المميتة .. تحذرني امي من السنتهم القاتلة كل يوم .. شريكة في الجريمة انتي يا امي ..
لقنت انني مجرد ملحق .. ان شرفهم يكمن بين فخذي .. و همتهم تسكن بين طيات شفتي .. و عزتهم تختبئ بين نهدي .. و سمعتهم تكمن في مدى سمك الغشاء الذي بين قدمي .. انني ناقصة عقل و دين .. وليمة فوق سرير .. اكثر اهل النار .. كيف لا و قد اصطفى رب السماء الذي خلق الكواكب و النجوم الذكور على الاناث ..
لقنت و لقنت و لقنت .. الا انهم لم يعلموا انني قادرة على ان اكفر بكل ما لقنوني اياه .. ارادوا مني أن اؤمن بان الشرف مجرد قطرات دم على قميص ناصع البياض .. و بان الفضيلة تكمن في الرضوخ و الانضمام لقطيع العبيد و الجواري .. لم يعلموا انني الحقيقة التي عجزوا عن انكارها .. انني وهم خطيئة حواء .. انني جبروت ديهيا .. ضراوة شبق أفروديت .. حنكة زنوبيا .. و اتقاد تمرد ليليت ..
مغتالو الاحلام هم .. مقدسو الاوهام .. ململمو احلامي المجهضة .. محطمو آمالي المعلقة .. ان اولد انثى يعني انني ملك رسمي للعائلة .. و ان الكلمات الداعرة التي تنبس بها افواههم ستخترقني و ترديني حطاما ان لم اذعن لقوانينهم .. انه من الممنوع ان احب .. ان اعشق دون ورقة يخطها الشيخ بخطه الردىء و يعلن من خلالها بيعي لفلان بدينار .. من المحرم ان أنهل من رحيق تلك النشوة البريئة دون عقد بيع و شراء .. ان مصيري الحتمي في المطبخ بين اطباق الطعام .. ان هدفي الوحيد ارضاء زوجي و انجاب فيلق من الاطفال .. تلك هي السعادة بعينها بالنسبة لهم .. يخالون الحرية عهرا .. و التمرد على قوانينهم الجائرة انحلالا .. و التعبير عن مشاعري شذوذا .. و النهل من بحر السعادة حراما .. و الصدق عيبا ... و الشجاعة فجورا .. و الاختلاف عن ما ألفوه لا يعني سوى انني مجرد عاهرة اخرى تلحق بأهلها الفضيحة ..
انا هذه المرآة .. تلك المراة اللعينة التي تفضح عورتهم للعيان .. تكشف اكاذيبهم و تعري نفاقهم .. انا تلك الحقيقة التي ترعبهم .. تفزعهم .. رغم قمعهم .. سأحيا .. رغم جهلهم سأنهض و اردي الحلم حقيقة .. ليغدو القيد حطاما .. و قوانينهم وهما .. سأخمد النيران المحتجة التي تلتهم احشائي و انتشي من نبيذ التمرد .. لن انصاع .. رغم ضراوة المحرقة .. لن اهزم .. حتى اكسر اغلال العبودية و ازعق في ظلمة الليل الماجن معلنة بوادر الحرية .. انا كذبة الله التي صدقتموها و كفرت بها .. انا لعنة الحقيقة التي جهلتموها و آمنت بها ايمانا اعمى .. "
تفترش الارض لتجلس القرفصاء مجددا وسط الغرفة المظلمة .. تفتح قدميها وتتحسس عضوها باحثة عن ضالتها بلهفة غريق يبحث عن حبل نجاة .. تحشر اصبعها وسط منبع الوجود ذاك لينساب دم قان يعلن بوادر تحررها من وهم العذرية .. تحدق مليا في المراة المعلقة امامها و قد لطخت يداها بآثار الجريمة و اضحى الدنس يكتنف كل شبر من جلدها .. غدت اشبه بعاهرة من السهل ادانتها .. عاهرة بعقل يفكر ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق