إذا إتَّخذنا الإيديولوجيات معيارًا لتقسيم
المُجتمع، فإنَّه من الواضح أنَّه ينقسم إلى قسمين إثنين أولهما الأغلبية و هي
عبارة على مجموعةٍ من الأفراد يشتركون في أفكارهم و آرائهم و مواقفهم من الأمور و
الأغلبية ذاتها تنقسم إلى ما يُسمَّى بالقطيع و عادةً ما يتصِّفون بالتعصب و
التسرع و التعميم و الأحكام المُسبقة، و آخرون يقرّون بتبرأهم من القطيع و يجهدون
أنفسهم عادةً حتّى لا يوضعوا في محلِّ المُتعصِّب أو الرجعي أو المُتخلف. بينما
القسم الثاني يُمثل الأقليّات و هم مجموعة من الأفراد يختلفون عن الأغلبية في
آرائهم و عقائدهم و نظراتهم للأمور، و من المنطقي أن يلقى هؤلاء إضطهادًا كبيرًا
من قبل الأغلبية في المُجتمعات الجاهلة و المتعصبة خصوصًا، و بالحديث في سياق
تقسيمنا للمجتمع، قد تراود أذهاننا أسئلةٌ كثيرة في ماهية أصل هذا الإختلاف، فمثلا
هل من
يتَّبعون الأغلبية في أفكارهم قرروا بأنفسِهم لأنفسهم أم أنَّ الأكثرية قررت محلهم
؟ و إن كان الجواب بلا فهل هو قصور عن التقرير ، أم أنَّه يوَّفر عليهم عناء
التفكير؟
قصَّتنا جميعًا تبدأ من مؤسسة
العائلة، حيثُ نفتحُ أعيننا للمرة الأولى و نستنشق أنفاسنا الأولى قربهم، عاجزين و
ضعفاء. و إن كُنَّا كذلك، فهل نستطيع التقرير؟ لا. الأسرة تشعرنا بالأمان بدايةً، مشاهد
العناق و القبلات و مُداعبتنا و تلذذهم بمولودهم الجديد، و تلبيتهم لغريزة طلب
الحنان لدينا، أمورٌ كفيلةٌ بجعلنا نصدق أي هراءٍ ينقلونه لنَا.
ما علاقة الأسرة بالأغلبية؟
الأمرُ بسيط، نفس الإعتداء على حرّيتنا في التفكير عند الصغر، حصل لآبائنا
و أمّهاتنا، بعضهم أدركوه و تركوا لنَا حرية التفكير، و بعضهم حلفوا يمينًا على أن
يرضوا نفس العبودية التي رضوا بها لأنفسهم لنا، إذا هنا يصحُّ القول أنّه توجد
علاقةٌ تكاملية بين الأسرة و الأغلبية، فهذه الأخيرة تنقل للأب و الأم ما لم تقوَ
على أن تجعل منه قرارًا لها، و يحصل لنا نفس الشيء من قبل آبائنا.
للسائل أن يسأل، المرء في فترة الطفولة عاجزٌ عن التقرير و هذا ليس عيبًا،
لكن لماذا يبقى الأغلبيون على نفس الأفكار و العقائد و القرارات حتى عند كبرهم؟
هذا ما سيُجيبنا على أشكلتنا الثانية.
لنفترض أننّي شابٌ في سنِّ العشرين، درستُ و صرتُ إنسانًا يجيد القراءة و
الكتابة و لي دراية لابأس بها عن التاريخ و الجغرافيا و الفلسفة و علم النفس و ما
إلى ذلك، لكنّني بقيت على ما أورثه لي والداي من إيديولوجيات. أسكُن مجتمعا يتكون
من أغلبية هندوسية، و أقلية مسيحيون و ملحدون و بوذيون.
أتوجه في أحد الأيام للمقهى، حيثُ ألتقي بصديقي الملحد.
سيبدأ الملحد بإنتقاد ديني، و من ثم ذمِّ بعض الأفكار التي تتمثل في أحكامٍ
مُسبقةٍ قديمة لم أعرها عناء التفكير و التساؤل بتاتًا ، مثل إحتمال بُطلان ديني و
عقائدي، و أنَّ إعتقادي بخصوص حياةٍ أخرى بعد الموت خطأ، و أنّ الأرض هي من تدور
حول الشمس لا العكس.
صديقي الملحد طبعًا سيمدني بحججٍ و مقالات و مصادر ليدعم أقواله، و أنا
سآخذ كلُّ ما قال بعين الإعتبار.
سأعود إلى البيت، و ستدور أقواله في ذهني لساعة أو ساعتين، و ما إن أبدأ في
الشك إذ به ذلك السؤال اللعين المخبول عدو التفكير و الفلسفة و التنوير يراودني.
"هل يريد صديقي الملحد قول أنَّ جميع الناس مخطئون؟ هل يريد أن يقول أن
إعتقاد ثمانٍ و ثمانين بالمائة من سكّان العالم بحياةٍ بعد الموت، أمرٌ ناتجٌ عن
خطأ؟ كيف يخطأ أكثر من نصف سكان العالم بخصوص أمرٍ كهذا؟؟؟؟"
دون أي دليل على وجود حياةٍ بعد الموت،
دون أي محاولة للبحث،
دون أي وضعٍ لإحتمال إنخداع البشرية بكاملها، أتخذُّ الأكثرية معيارًا
للتصديق.
ذلك السؤال أقنعني إلى حدِّ ما بصحة ما أفعله، لكن حجج صديقي الملحد ليست
بأمور يستهان بها، ما العمل؟
أتوجهُ إلى أبي، حتى أسأله و أقول : أبي، لي شكوك بخصوص معتقدنا ...
فيدعوني للصلاة و سؤالي عن الشعور الذي سأحس به بعدها.
أصلي،
أشعرُ بإرتياح و إستقرار كبيرين ...
إنّني أشعرُ أنَّ مقدسي حقيقي ... نعم إنه كذلك ...
أغادر البيت، خالٍ من شكوكي في الدين، لكن ليس في أمر دوران الأرض حول
الشمس. أسأل إبن حيي الأول : "ما التي تدور، الأرض أم الشمس" فيقول
"الأرض" و يمدني بأسماء علماء و باحثين أقروا بصحة ذلك ... أستوقف
الثاني و أسأله نفس السؤال فيقول : "الأرض." كذلك الثالث و الرابع و
الخامس و السادس سيقرّان بدوران الأرض حول الشمس لكنَّ الخامس فسيقول :
"الشمس، هذا ما أعلمه ..."
فأقول في نفسي : أعتقد أنُّ الأرض هي التي تدور، فأنا لم أحاول البحث في
الأمر من قبل، و من قال أن الشمس هي تدور إليه آخرًا قد يكون قد تكاسل عن البحث
مثلي، بالإضافة إلى أن عدد الذين قالوا أن الأرض هي التي تدور من بين الذين سألتهم
أكبر من عدد من قالوا الشمس، و هما أنا و ذلك الفتى، فهل سأكذِّبُ الأغلبية؟ طبعًا
لا."
طبعًا لا، المجدُ للأغلبية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق