“هنالك تنين يطلق نارا في غرفتي”
فلنفرض انني وبكل جدية أدليت لك بهذه الجملة وبكل توكيد. فمن المتوقع من جانبك ان تود ان تبحث في الامر, لترى بنفسك. فهنالك ما لايعد ولا يحصى من اساطير التنين التي تطلق نارا مع زفيرها, ولا يوجد اي دليل عليها, يا لها من فرصة!
“أرني اياه” انت قلت. فأخذتك الى غرفتي في الاعلى, ها انت في غرفتي, لا يوجد تنين, مجرد مخدع الجئ اليه حين يغلبني النعاس, ومدفأة ومصباح كهربائي نصبته على مكتبي وبضعة كتب.
“أين التنين” سألتني.
“هناك قرب المدفأة, نسيت ان اخبرك بانه خفي” أجبتك وبكل خوف الوح بيدي نحو مدفأة قديمة.
فاقترحت انت ان ننثر بعض الدقيق (الطحين) على الارض كي يتين لنا اثار اقدام هذا التنين.
“فكرة جيدة” اجبتك.. “لكن هذا التنين يطير”
فاقترحت ان نجلب متحسس للاشعة ما تحت الحمراء كي نرى النار التي يطلقها.
“فكر جيدة, لكن النار كما التنين خفية وهي بدون حرارة طاقوية”
طال صبرك رغم عنادي, واقترحت ان نرش الصبغ البخاخ في الغرفة كي يظهر لنا التنين.
“فكرة جيدة, لكن هذا التنين غير مادي والصبغ لن ينفع”
وهكذا كنت انت تقترح كل تجربة فيزيائية كي يظهر لنا هذا التنين وانا كانت لدي تفسيراتي الميتافيزيقية لعدم صلاح هذه التجارب.
حسناً, ما الفرق بين تنين خفي لا أثر له, يطير في الهواء, ينفث النار دون حرارة او تأثير حسي, وبين عدم وجود تنين على الاطلاق ؟ ان لم يكن هنالك اي دليل سيثبت لك خطأ ادعائي بحقيقة التنين ولا اي تجربة مقنعة ستناقض ما أقول أو تدعمه, فما معنى أن تصدق بأن تنيني موجوداً ؟ فالعجر عن إثبات خطأ ما أدعيه ليس على الإطلاق مماثلاً لإثبات صحته. بالاضافة الى تصريحات تضفي لهذا الادعاء مناعته من التجارب الفيزيائية, لتجعله بلا جدوى ولا قيمة مهما كان مثيراً لفضولك ودهشتك. وما اطلبه منك سينتهي بنا الى التصديق الاعمى بسبب غياب اي دليل منطقي او حسي, فانا إذاً أطلب منك أن تصدق ما أدعي لمجرد أنني أقول ما أقول.
كل ما وَجَدَته في غرفتي ان هناك مرضاً نفسياً في عَقلي. فتتساءل عن ما أقنعني بوجوده على الرغم من عدم وجود اي اختبار بالامكان تطبيقه لإدراك ذلك, ربما كان حلما أو هلوسة, ولكن – إن كان كذلك – لماذا يا ترى أحمل هذا الأمر على محمل الجد ؟ ربما أنا بحاجة لرعاية نفسية أو قمت – على أقل تقدير – بتقليل إمكانية وقوعي في الخطأ الى حد خطير. الا انك كنت دقيقا وذو عقلية منفتحة لكل الاحتمالات ولم ترفض فكرة وجود التنين بشكل قاطع, بل مجرد وضعتها على الانتظار كي تتمكن من قياس صحتها عقلانيا وحسيا بل كان من الممكن ان تقبل هذه الفكرة إن دَعَمَ ما قمت به من الاختبارات ما أدعي. وهكذا سيكون تعصبا من عندي لو رَفضتُ هذه الاختبارات واعتبرتُها إهانة لي وإتهمتك بأنك مُمِل وضعيف الخيال لمجرد أنك أصدرت الحكم “غير مثبت”.
ولنفرض أن الأمر سار على شكل مغاير, فمع أن التنين كان خفياً, لكننا ووجدنا له أثاراً,فظهرت لنا أثار الأقدام على الدقيق, وقفز المؤشر الحراري حين وجهناه قرب المدفأة وظهر لنا رسم تنين مشقوق العرف يتمايل في الهواء أمامنا, فمهما كنت شاكاً في وجود التنانين التي تطلق النار – ناهيك عن التنانين الخفية – فستعترف أن هنالك, قرب تلك المدفأة, شيئاً ما يشابه بصورة مبدئية تنيناً يطلق النار.
سيناريو أخر, فلنفرض انني لست وحيدا في هذا الادعاء وهناك العديد من جيرانك في الحي يدعون ان هناك تنينا في غرفهم, رغم أن بعظهم لا يعرف البعض. وبدئنا نذيع هذه الادعاءات على مسامع الناس, حتى تتطور الامر بنا الى اننا نشعر بالاهانة وتثار لدينا عقد النقص – نقص الدليل – كلما جاء احدهم وطلب منا دليلا حسيا او منطقيا. ونتيجة لهذه الحالة بدأت تظهر لدى بعض الناس اثار اقدام هذا التنين وبدئوا بنشرها وكلما يقترب احد المطالبين بالدليل لا تظهر هذه الاثار بشكل يدعوا للتساءل ما إن كانت تلك الأثار قد تم إصطناعها. ثم بدأت موجة أخرى من الادلة الحسية على وجود التنين وظهر لدينا احد عشاق التنانين باصبع محروق, ونحن نعلم ان هناك العديد من الطرق لكي يحترق الاصبع بدون اي نفثات نارية للتنين. وهكذا اكتشف المطالبين بالدليل انه قد قام بحرق اصبعه عمداً, فيا ترى ما الذي يجعل انسان عاقل ذو تفكير منطقي يحرق اصبعه مجرد كي يثبت وجود تنين في غرفته علما ان هذا التنين غير ملموس وغير محسوس ولا يضر ولا ينفع ولا فرق بين وجوده وعدم وجوده على الاطلاق ؟ ذلك الدليل الذي طرحه عاشق التنانين هذا, أبعد ما يكون عن الدليل الدامغ المقبول, بغض النظر عن أهميته لدى بقية عشاق التنانين. ومرة أخرى, فإن النهج المقبول حالياً يكون برفض فرضية التنين مبدئياً, وأن نكون متفتحين لما ستقدمه لنا البيانات الفعلية في المستقبل في هذا الشأن, وأن نتساءل ما قد يكون السبب أن الكثير من الناس – من العقلاء والمتزنين – يشتركون في نفس الوهم الغريب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق